الخميس، 28 مارس 2013

قراءةٌفي نَصِّ (حُبْلى بِقَصيدَةٍ مَمْشوقَةِ الْقَدِّ)للمبدعة مريم بن بختة بقلم / الأستاذ الدكتور مصطفى سلوي


النَّصُّ وظِلالُهُ: قراءةٌفي نَصِّ
(حُبْلى بِقَصيدَةٍ مَمْشوقَةِ الْقَدِّ)للمبدعة مريم بن بختة

الأستاذ الدكتور مصطفى سلوي
كلية الآداب/ جامعة محمد الأول- وجدة

من أبرز الأمور التي شدتني إلى هذا النص وأنا أتأمل أسطره الشعرية الجميلة أنه ظل لنصوص أخرى كثيرة عاشت من قبله. وهذا ما أشرت إليه غير ما مرة، فيما كتبته من نقود ودراسات، من أن لكل نص ظلال يمتد نحوها، يتواصل معها؛ من غير أن يكون للمبدع وعي بهذه النصوص، بل وهو لا يعرفها بالمرة. والفائدة من كل هذا أن ليس هنالك نص يعيش بمفرده.
منذ البداية يكتشف القارئ بأن مخاطب الشاعرة في هذا النص هو النص نفسه/ القصيدة. فالقصيدة هي التي تتهادى بظل الشاعرة، وهي التي تتسكع بأوردة العشق، وهي التي ترمي بعبيرها حروفا تستلقي. وهي نفسها القصيدة/ الحُلُم التي تقرأ الشاعرةَ على مَهَلٍ؛ تقول:
على
ناصيةالحرف
تتهادى بظلي
تتسكع في أوردةالعشق
هناوهناك
ترمي بعبيرها
حروفا تستلقي
تقرأني على مهل..
وحين نعود إلى بعض ما كتبه الشعراء المغاربة المعاصرون في السياق نفسه، سنقرأ أن الشاعر الرقيق الأستاذ محمد بنعمارة (رحمه الله) قد خاطب القصيدة، في نص جميل أشبهت فيه القصيدة (الرُّمّانَةَ)؛ يقول:
امــرأة رمّـانـهْ
تُـشـفــي
جُــرْحَ الـشّـاعـر
وتـضـمِّـد أحـزانَــهْ
كـانـت كـالـمـوج
لـهــا الـمَــدُّ
لـهــا الـجَــزْرُ
وكـالـمـوج يغـيِّـر ألـوانَـهْ
مـثـلَ الـمـوج
ومـثـلَ الـنّــاي
إذا أرســل
في صـمـتِ الـغـابـةِ
ألــحــانـهْ.
أسـألـهــا:
مَــنْ أنــت؟
تـخـاطـبـنــي
بـنـشـيـد الإغــراء
أنــا بِـنْـتُ الـبَـحْــر
وعـاشـقـةٌ إنـسـانَــهْ(ديوان: في الرياح وفي السحابـة، ص.74-75.)
ثم هو الأمر نفسه، في نص بديع للشاعر العذب عبد الكريم الطبال، الذي يحتال لقصيدته بتشبيهات عدة؛ تلبس في كل مرة لباسا وطقسا يختلف عن الذي مضى؛ يقول:
شَـجَـرَةٌ سألْـتُـهـا
ذاتَ بُـسْتــانْ
مِـنْ أيْـنَ تَـشْـتَــري الْـفُـسْـتـانْ؟
فَـغَـمْـغَـمَـتْ:
اِســألِ الـفـلْــكَ
والـنَّــوارسْ
هي الـتـي تَـجْـلُـبُـهـا إلــيْ
ربــمــا
مِـنْ بَـلَـدِ الـمَـحــارْ
ربــمــا
مِـنْ بَــلَــدِ الـسَّــمــاءْ
فـقـلْـتُ:
والـقَـمـيـصَ الـصّـوفِـيَّ
الـمَـطْـروزَ بِـحـريـر الـمـاءْ؟
فَـغَـمْـغَـمَـتْ:
اِســألْ صَـديـقَ الـعُـشْـبِ
سـيِّــدي الـسَّـحـابْ.
فـقُـلْــتُ:
والـمِـظَـلَّـةَ الـزرقــاءَ
والـقِــلادَةَ الـخـضْـراءَ
فـوق الـصَّـدْرِ
والـكـتــابَ الـغـامِـضَ
الـمَـسْـطــورَ
في الأوراقْ
فـغـمـغـمـتْ:
لَــسْــتُ
أرى الــذي تــراهُ
في الـمـرآةْ.....
هكذا ينطلق الخطاب في نص مريم بن بختة، نحو القصيدة. إلا أن الذي سيحدث فيما بعد، هو تحول الخطاب نحو مذكر غير معروف؛ عدا ما تقدمه الشاعرة من بعض ملامحه الباهتة التي لا تكاد تعرف بهويته:
اقرأني روايةتصنعهاأنت
على سريرالفرح
أفرش لك محبتي
أريج عبق
يغادرني إليك
عطرا تتنشقه
لحظةالاشتياق
اتلوني كصلاة ناسك في محراب
أصنع لي بين دفتي قلبك معبدي
أسكن إليه كلماهجع الحلم إليك
كلمافر همسي إلي
كلماعشقت طلتك على ضفاف الروح..
فمن ذا الذي تفعل الشاعرة كل هذه الأشياء لأجله؟ أهو الحرف الذي يبقى موئلها لكتابة القصيدة؟ أم هو كائن آخر ذاته من ذات الشاعرة، مادامت أعلنت انتاءها اللا مشروط له؟ ستعود مريم بن بخته لتأمر هذا الآخر بأن يرتلها أنشودة طير يغرِّدُ في البراري:
رتلني أنشودةطير مغرد في البراري
يعشق الحرية
تسنيمةفرح عذري؛
كالفرحةالاولى..
كاللحظةالاولى..
كالهمسةالاولى..
كالقبلةالاولى..
والشاعرة لا تتوان منذ مطلع النص في أن تكون موضع فعل لهذا المخاطب؛ إذ هو الذي سيصبح المحرك لها في كل ما تقوم به من أفعال، وما تتوق إلى بلوغه من مقاصد. وهو الذي سيحل محلها في جميع ما يَصْدُرُ عنها من أفعال، حتى إن الشاعرة ومخاطَبَها يصبحان ذاتا واحدة، لا يمكن عزل هذا عن ذاك؛ وجهان لعملة واحدة، من الصعب تَصَوُّرُ الوجه الأول دون الوجه الثاني. وهو الطريقُ نَفْسُهُالذي ستتحول فيه مريم بن بختة إلى الأمر، ليس في صورته النحوية التي غالبا ما تكون على وجه الاستعلاء، ولكن في صورته البلاغية التي تنحو منحى الطلب والاستعطاف:
دعني أرتاح قرب أوردة عشقك،
أستلقي على سرير العمر
لأسكنك وحدك
بلاشريك
سوى قلبي الخافق باسمك..
ومريم بن بختة لا تريد شريكا آخر لهذا المخاطب الذي تريد أن تسكنه/ تعتنِقَهُ وتُؤْمِنَ به مقصدا وحيدا لا شريك له، عدا القلب الذي يَسْكُنُ الشاعرةَ وتَسْكُنُهُ في الوقت ذاته. لينتهي النص، بعد ذلك، إلى أن تمنح مخاطَبَها حروفَها ليقرأها صلاةً في قُدّاسٍ، وَلِيُشْعِلَ شُموعَ القلْبِ، كي يَعْلَمَ، في نهاية المطاف، بأن الحُبَّ حياةٌ لا تُقاسُ بالمقاسات التي تُقاسُ بها سائرُ الأشياء.
هاك حروفي اقرأهاصلاةفي قداس
واشعل شموع القلب
كي تعلم أن الحب حياةلاتقاس.
وكان الشاعر المغربي عبد الكريم الطبال، مرة أخرى، قد كتب، فيما كَتَبَ، نصّاً جميلا اختار أن يسمّيه (أيُّها الصَّديقُ)، جاء فيه:
رأيـتُــهُ:
كـمـا الخـيـالُ،
أمـام الـنـبـع،
مُـحـدِّقـا
فـي الـمــاء،
فـي أرخبـيـلِ ضـوءٍ،
فـي شُجيـرة بـيـضـاء،
فـي يـد ممـدودة لـحُـلْـم،
فـي مـرآة دمـع،
فـي كتـابـة مَمْـحُـوَّةٍ،
مـن كـل شـيء؛
مـن عـالـم مكـنـون،
مـن سـرب طـيـر أزرق،
مـن حـوريـات عـاريـات،
مـن شـروق شـهـوة جـديـدة،
مـن عـزف نـاي نـبـوي.
فـقـلـتُ لـهُ:
إلى متى تـظـل أيها الصديـقُ
مُـحَـدِّقـا في الـمـاء؟
ولكن لِمَ جِئْتُ بهذا النص للأستاذ الشاعر عبد الكريم الطبال؟لأمر بسيط يكمن في أن عبد الكريم الطبال اختار صفحة الماء مركبا إلى ذاته، لينتهي الأمر إلى أن الصديق المخاطب من قِبَلِ الشاعر هو نفسُهُ عبد الكريم الطبال الذي ظهرت صفحة وجهه على الماء. وكذلك الشأن في نص مريم بن بختة التي يعود الخطاب في نصها هذه المرة ليس على ذاتها كما هو الحال في نص الطبال، ولكن على ذات أخرى هي قريبة أشد ما يكون القرب من ذات الشاعرة. تلك مجموعة من ظلال النص، سواء تعلق الأمر بالحروق والكلمات ظِلّاً للنص، أم بالذوات وهي من أجمل الظلال في كل نص يتوق إلى الحلم بحياة متعددة الرؤى والمولد... ولكن من تكون هذه الذات القريبة أشَدَّ ما يكون القُرْبُ من ذات مريم بن بختة ومن كل ذات تحيا وفق الرؤية الإلهية المتعالية؟
وجدة؛ في: 26 مارس 2013
الأستاذ الدكتور مصطفى سلوي
مع خالص متمنياتي لك بالتألق أيتها الصديقة العزيزة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق